نحن الصعاليك، فرنسا السود والمثليين والغجر


"نحن الصعاليك / نحن القليل / نحن اللاشيء / نحن الكلاب / نحن النحاف / نحن الزنوج / ماذا ننتظر / لندعي الجنون / ونتبول نخبنا / على الحياة / الغبية الحمقاء / التي أعدوها لنا"
بهذه الكلمات للشاعر الغوياني ليون غونتران دماس، المقتطفة من ديوان "العلامة السوداء" (1956)، وقفت كريستيان توبيرا، أحد أهم رموز اليسار الفرنسي، أمام البرلمان، فذهلت القاعة وخيم الصمت قبل أن يزعزعها التصفيق. من أعلى المنبر بدت وزيرة العدل مثالا حيا لـ"الأورفيه الأسود" لجان بول سارتر والذي أراق حبر النقاد، خاصة في الولايات المتحدة، عند صدوره لأول مرة في 1948. ويقول سارتر في نص مقدمة موسوعة الشعر الزنجي والمدغشقري الجديد باللغة الفرنسية "هاهم سود واقفون ينظرون إلينا وأتمنى لكم أن تحسوا مثلي بصدمة أن تُرون. لثلاثة قرون تمتع الأبيض بامتياز أن يَرى دون أن  يُرى. اليوم ينظر إلينا هؤلاء السود فتعود نظراتنا لتغرس في عيوننا: مشاعل سوداء تضيء بدورها العالم فتبدو أمامها رؤوسنا البيضاء مصابيح صغيرة تأرجحها الريح".

وسيسجل تاريخ قصر بوربون هذه اللحظة التي "التقى فيها الشعر بالعدالة" كما علق كلود بارتولون رئيس الجمعية العامة، لحظة ارتقت فيها السياسة الفرنسية إلى أعلى درجات ذاكرتها التي لم تشهد مثلها منذ خطابات فيكتور هوغو وأوجين لامرتين.... وليون غونتران دماس. وإذا كان البعض يجهل النشاط السياسي لشاعري القرن التاسع عشر، فإن العديد يجهلون الشاعر الغوياني والبرلماني الذي كان في ثلاثينات القرن العشرين، مع المارتينيكي إيميه سيزير والسينغالي ليوبولد سيدار سنغور الغنيان عن التعريف، من مؤسسي تيار الزنوجية الأدبي والسياسي. وتناول الثلاثي كيفية تكون الفكر العنصري بإقصائه التدريجي للموروث الإفريقي من الهوية العالمية. وكتابات غونتران دماس تندرج ضمن النضال من أجل الحرية والانعتاق من العزل الثقافي ومن الهيمنة الاستعمارية، كرد فعل على الظلم والقمع وطمس موكنات الهويات المختلفة.

وعند رؤية الفيديو التي تستشهد فيها توبيرا بدماس، قد لا ينتاب المشاهد الشك لحظة واحدة أنها الوقائع تعود للأيام الأخيرة حين طالت وزيرة العدل شتائم عنصرية بسبب لون بشرتها بلغت ذروتها في جريدة "مينوت" المتطرفة حيث وصفت بـ "ذكاء القرد وضحكة الموز"، لكن من سخرية الوقت التي تحول الصدف أقدارا، فإن هذا الموقف المؤثر للوزيرة الغويانية جرى في شتاء 2013 في خضم صراعها الناجح والجدالات الواسعة والحراك الشعبي الكبير من أجل إتاحة الزواج المثلي. فها هي الدائرة تأكل مركزها، هاهي أقليات تدافع على الأقليات، وها هي الفئات التي عاشت القمع : النساء والسود والمثليون، تتراكم في صوت توبيرا التي تجسد فكرة "الآخر" فتتعمق تفرعاتها وتظهر حسب عبارة خبراء البحوث "المابعداستعمارية"  كـ "آخر الآخر" فهي تجمع في شخص أو مكان واحد عُقد قمع عديدة.    

وما يزيد المشهد تعقيدا طالب دماس  بالحق في الاختلاف ومقاومة سياسات الاستيعاب والاحتواء، وهو ما  ذكّر به النائب اليميني هرفي ماريتون الوزيرة توبيرا فجاءت إجابتها في شكل أبيات الشعر "نحن الصعاليك" وأضافت "الاختلاف بالتحديد ليس تبريرا لعدم المساواة في الحقوق، فإذا لم نمنح نحن هذه المساواة وإذا لم نعترف لهم نحن بحرياتهم، فلنقل لهم : ماذا تنتظرون لادعاء الجنون على الحياة الغبية الحمقاء التي يعدونها لكم". ولم تفهم فرنسا أن هذه التعقيدات مشاعل سوداء وحدها كفيلة بإنارة الطريق.

وجاء رد الحكومة الفرنسية متأخرا على هذه الجنحة العنصرية، و لم ترتفع أصوات قوية للتنديد بما مس توبيرا من شتائم أخرجتها حسب قولها من "فصيلة البشر" وما فيها من تهديد للمجتمع برمته، وسط جو أوروبي تسوده معاداة الإسلام ومعاداة السامية ومعاداة المثلية ورفض الاختلاف بصفة عامة، جو مرشح لصعود اليمين المتطرف. ما عدى مقال للكاتبة كريستيتن أنغو، خير من لاشيء، لكنها سجينة تيارات "الرواية الذاتية"، ولم تعبر في النهاية سوى عن عجزها أمام ما يحصل في بلادها، فتكتفي بالبكاء أمام شاشة التلفزيون.  وهاهو وزير الداخلية مانويل فالس يحاول الظهور بصورة المقرب لتوبيرا، ربما ليرمم سمعته اليسارية الملطخة بفضيحة ترحيل فتاة غجرية إلى كوسوفو بعد توقيفها خلال رحلة مدرسية.

ولد ماريتون في الجزائر. ولد فالس في إسبانيا. ولدت توبيرا في غويانا. اختلفت الوجوه واختلطت الألوان.  فرنسا تقف أمام المرآة ولا تبصر. فرنسا، وفي انتظار البرابرة، محتاجة أكثر من أي وقت مضى إلى الصعاليك المدافعين عنها.
Comments or opinions expressed on this blog are those of the individual contributors only, and do not necessarily represent the views of FRANCE 24. The content on this blog is provided on an "as-is" basis. FRANCE 24 is not liable for any damages whatsoever arising out of the content or use of this blog.
0 Comments

Post new comment

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.
  • No HTML tags allowed

More information about formatting options

CAPTCHA
This question is for testing whether you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.