اثنين, 06/16/2014 - 14:48
إعادة البورنوغرافيا إلى الله
بدت الصحافة الفرنسية في الفترة الأخيرة مندهشة من صعود "الدراسات البورنوغرافية" Porn Studies إلى الواجهة في البلاد. غريب أمر الفرنسيين : يطلقون بوادر توجه فكري معين ويبحثون مختلف زواياه، لكن الأمريكيين يتبنونه ويصنعون له خانات جديدة لا توقفها محافظة المجتمع ولا الأفكار المسبقة المحيطة بالموضوع، ثم تعود المادة إلى فرنسا فيقف أمامها أهلها وكأن الذرة اكتشفت.
كذلك كان الأمر بالنسبة لتيار الوجودية والدراسات النسوية والفلسفة الفينومينولوجية-اللغوية-النفسية، فأهم المفكرين الفرنسيين على غرار جاك ديريدا وميشال فوكو وسيمون دي بوفوار وجوليا كريستيفا وجيل دولوز وكلود ليفي ستروس، ألهموا الأمريكيين "النظرية الفرنسية" French Theory. ولاقت هذه النظرية رواجا كبيرا في جامعات الولايات المتحدة وخصوصا في ثمانينات القرن الماضي مقابل تراجعها في فرنسا بعد نوع من الإحباط الذي تلى احتجاجات مايو 1968. وتتمثل الـ "النظرية الفرنسية" في مجموعة من البحوث في علم الاجتماع والآداب والفلسفة أثرت في الجامعيين الأمريكيين وفي أوساط الفن وعلى بعض التحركات الاجتماعية.
ورأى البعض أن في تجميع مفكرين فرنسيين تحت نفس الغطاء نوعا من الزيف الذي يفقدهم تحديدا فرادة اختلاف آفاقهم، في حين يشترك هؤلاء المفكرون في المنهجيات المعتمدة وأهمها قراءات جديدة للفلسفة الألمانية، خصوصا هيديغير ونيتشه وفرويد، ونقد هذه الفلسفة نفسها. وكان أيضا لرواج "النظرية الفرنسية" في الولايات المتحدة عوامل أخرى على غرار وجود أرضية ثقافية وسياسية متقاربة، إضافة إلى جرأة الأمريكيين في نسف الحدود بين الاختصاصات في الوقت الذي تبقى فيه الجامعة الفرنسية شديدة التشبث بالمواد التقليدية والتقسيم الضيق وسط "العلوم الإنسانية". فكما يقول باحث العلوم السياسية جان رفائيل بورج الذي يعد أطروحة في جامعة باريس 8 حول "الرضاء الجنسي كفعل تشريعي" : " برأيي لا توجد حقا دراسات بورنوغرافية في فرنسا بسبب ضعف الإرادة ولأن الأسس المؤسساتية لا تسمح بذلك. فيجب أن تكون مختصا في مادة معينة : يمكنك أن تكون عالم اجتماع أو مختصا في السياسة أو مؤرخا، لكن لا يمكنك أن تكون "بورنولوجيا"".
ورغم ذلك فإن أهم التوجهات الفكرية التي ميزت العقدين الماضيين في الولايات المتحدة هي "الدراسات الثقافية" Cultural Studies و"الدراسات المابعد استعمارية" Postcolonial Studies و"الدراسات الجندرية" في ترجمة حرفية للـ Gender Studies وهي بحث في "الجنس الاجتماعي" أو "النوع الاجتماعي"، منبثقة عن "النظرية الفرنسية". وأهم رواد هذه التيارات هي جوديت بوتلر صاحبة "اضطرابات الجندر" الشهير والذي يقترح أن ترتيب الأدوار في المجتمع ليس نتيجة جسدية بيولوجية وإنما بناء ثقافي وإيديولوجي، إضافة إلى غاياتري سبيفاك وإدوار سعيد وغيرهم. فهؤلاء المفكرون يبحثون هويات الإنسان المعاصر والتي تجمع غالبا عقد قمع متعددة في ذات واحدة (كأن تكون مثلا امرأة وفركوفونية ومثلية في آن). والمشكل أن العديد من القراءات السطحية تقرن في الأذهان هذه البحوث بمسائل جنسية بالمعنى "الاستهلاكي" للأمر، وإن كان قانون الإنتاج والاستهلاك حتميا في زمننا فإن هؤلاء الفلاسفة يسعون إلى تغيير قيم السوق، وبالتحديد بإثبات أن للجسد، وإن كان مستهلِكا مستهلَكا، قيمة لا تباع ولا تشترى.
فعندما تتطرق جوديت بوتلر مثلا إلى مسألة المثلية الجنسية، تصل بنا إلى مواقف شائكة عرفها زمننا على غرار إجبار جنود أمريكيين رجالا عراقيين في المعتقل على ممارسة الجنس فيما بينهم. وتتجاوز بوتلر الأبعاد التي يطرحها تحريف منظومة قيم في مجتمع ما وتحويلها لأداة تعذيب، لتقف على تعليق الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش على تلك الممارسات "إنه أمر مقرف"، وتتساءل حول معنى استعماله لنعت "مقرف" : ما الذي يصفه بوش بالمقرف، ممارسة رجلين للجنس أم التعذيب ؟ وعندما تتطرق بوتلر إلى مسألة الموت وقيمة حياة بشرية في كتابها "أي حياة تستحق الحداد؟" تتساءل : أي حياة تستحق أن نبكي انتهاءها ؟ فلماذا يهتز العالم لهلاك حوالي ثلاثة آلاف شخص في اعتداءات 11 سبتمبر 2001 ولا يتحرك ساكن لعشرات الآلاف الذين قضوا في حرب الأفغانستان...
وإن كانت الصحافة الفرنسية تتساءل حول تكثف صدور كتب حول "البورنوغرافيا" في الأشهر الأخيرة، وتؤكد أن هذه الدراسات ولدت في الولايات المتحدة وتربطها بصدور كتاب باحثة أمريكية في 2004، وترى في نشر أول عدد من مجلة بريطانية مخصصة للموضوع حدثا كبيرا، فهي تجهل الموروث الفرنسي للمسألة. وإن كان للأمريكيين الفضل في استقطاب الأفكار وتطويرها وتصنيفها دون نفاق، فللفرنسيين سابق إطلاقها. لكن فرنسا عادة ما تقلل من شأنها أمام أمريكا، وهي عقدة وجب على الفرنسيين بحثها... لكنها مسألة أخرى يضيق فضاء المدونة لتحليلها فنتركها لحرب المدارس الناجمة عن نقص في الشهوة.فإن كانت الجامعات الفرنسية تتأخر في خلق اختصاص يحمل علنا تسمية Porn Studies لا يعني أنها لم تدرسها في إطار بحوث أخرى خصوصا اللغة والفلسفة والسيميوتيقا، لكن أصابت الصحافة الفرنسية في تحديد أسباب هذا التأخير الراجع إلى نظام تربوي ضيق الآفاق.
وحان الوقت لنكرم هنا الرئيس السابق لجامعة السوربون جورج مولينييه الذي غادرنا منذ أيام قليلة والذي لم يتردد من منبره "المقدس" من مواجهة الإصلاحات التي اقترحتها الحكومة في عهد الرئيس اليميني نيكولا ساركوزي عام 2009، حتى وصل الأمر إلى مواجهة بين الشرطة والطلاب في أحد أعرق الجامعات في العالم. وصمد موليينيه أمام حملة من التشويه على خلفية مواقفه السياسية المنادية بضرورة تكوين المعلمين وبحرية البحث ورفع نوع من الرقابة الإدارية الماكرة عن الجامعات من طرف حكومة شببها بحكومة "فيشي". وكان مولينيه من أبرز ورثاء البنيوية الفرنسية التي قادتنا إلى الدراسات الثقافية والجندرية نحو "البورنوغرافيا"، عنوان أحد آخر كتبه، والتي درسها سنوات طوال في السوربون قبل أن "يكتشفها" الأمريكيون وأن تعود لفرنسا في شكل "مفاجأة".
وإن كانت الصحافة الفرنسية تتحدث عن حقل مقيد ببحوث حول العاملين في مجال الجنس من عاهرات ووسطاء، وعن النضالات النسوية المتعارفة، وهي جميعها مهمة في "الدراسات البورنوغرافية"، فإن ما لم يفهمه الجميع هو البعد الإيتيقي الأساسي والضروري للبورنوغرافيا في حياة الإنسان. فحسب مولينيه كل فكر يقصي الجسد هو فكر فاشي، وأبرزها الفكر النازي الذي يبقى أكبر نموذج مجزرة جماعية في تاريخ الإنسانية لأنه لم يكتفي بقتل إنسانية الإنسان عبر إذلاله وإلغاء حياته بتصفيته بل وتجاوزه إلى "قتل الموت" بإتلاف الجثث نفسها. أي عتمة أكبر من ظلمات عصرنا "المتنور" الذي استمات في قتل الموت ؟ من هنا يصبح من غير الممكن أن نصنع فكرا حول الإنسان دون أن نفكر في الجسد. الجسد كمقياس للإنسانية، والجنس كمقياس للجسد. والنشوة كمقياس للجنس. فكيف يمكن أن نواكب التفكير حول الإنسان دون التفكير في ما كنهه وماهيته وهي الجسد ونشوته ؟ وطبعا يعتبر جنس الأنثى أكبر مقياس للجنس عامة والجسد ؟ فبعد 25 قرنا من الفكر المنحصر حول الذكر والأب، ومن شتى الانتهاكات التي تستهدفت النساء، ويبقى الاغتصاب أولها، فإن أهم شيء يمكننا التوقف عنده هو جنس النساء، وهي يشمل الذكر والأنثى لأنه ليس محددا بالبيولوجيا، حتى نعيد للإنسانية عموما إنسانيتها. كيف يمكن اليوم مثلا منع التفكير في حادثة التحرش بميدان التحرير ؟ وحذف الفيديو الذي يظهرها؟ وأي أمل يرجى من إنسانية معصوبة العينين ؟
وكان إقصاء جسد المرأة من المنظومة الفكرية عبر التاريخ وصل درجة أن العري نفسه صار مرادفا لعري جسد المرأة، فكيف نفسر مثلا أن الإنسان لم يبصر عري الرجال حتى غطت الأيار المنتصبة في أعمال ميشال أنجيلو كنيسة السيستين دون أن تهتز لها نفوس المؤمنين ؟ فيقول مولينيه إن البورنوغرافيا "ببساطة شجاعة وواضحة وصافية في تكرارها اللامتناهي للحركات من الجنسي إلى البصري : إنها منيرة". وتضيء أنوارها أنبل أبعاد العقل البشري في أكبر انتصار على الموت، من أجل الجسد الحي. خصوصا وإن الإبداع هو نوع من البورنوغرافيا –في سوق تبيع فيها عاهرة هواها للمجموعة-، في خلقه نشوة جماعية، فيزيولوجية، غير مجازية، لدى جمهور متعدد أمام عمل فني واحد. لذلك لا نخشى الحديث عن سوق الفن، وهي تحمل أكبر قيمة أخلاقية لأنها تحرك أعمق جوارح الإنسان وأكثرها حميمة وهشاشة. فحين نسمع سمفونية لموزار أو نقرأ أبياتا للمتنبي، تحمر الوجنات ويدق القلب ولا نرى ولا نسمع : إنها النشوة، ولنقل إنها نشوة ربانية.
لكن اهتمام الصحافة الفرنسية بهذه "الظاهرة" الجديدة القديمة، ورغم نسبية صحتها، تعتبر خطوة نحو تعميم هذا الفكر-الضرورة وإسقاط ورقة التوت عنه. وكانت فرصة لنا لنعيد ما للفرنسيين إلى الفرنسيين وما لله إلى الله.
كذلك كان الأمر بالنسبة لتيار الوجودية والدراسات النسوية والفلسفة الفينومينولوجية-اللغوية-النفسية، فأهم المفكرين الفرنسيين على غرار جاك ديريدا وميشال فوكو وسيمون دي بوفوار وجوليا كريستيفا وجيل دولوز وكلود ليفي ستروس، ألهموا الأمريكيين "النظرية الفرنسية" French Theory. ولاقت هذه النظرية رواجا كبيرا في جامعات الولايات المتحدة وخصوصا في ثمانينات القرن الماضي مقابل تراجعها في فرنسا بعد نوع من الإحباط الذي تلى احتجاجات مايو 1968. وتتمثل الـ "النظرية الفرنسية" في مجموعة من البحوث في علم الاجتماع والآداب والفلسفة أثرت في الجامعيين الأمريكيين وفي أوساط الفن وعلى بعض التحركات الاجتماعية.
ورأى البعض أن في تجميع مفكرين فرنسيين تحت نفس الغطاء نوعا من الزيف الذي يفقدهم تحديدا فرادة اختلاف آفاقهم، في حين يشترك هؤلاء المفكرون في المنهجيات المعتمدة وأهمها قراءات جديدة للفلسفة الألمانية، خصوصا هيديغير ونيتشه وفرويد، ونقد هذه الفلسفة نفسها. وكان أيضا لرواج "النظرية الفرنسية" في الولايات المتحدة عوامل أخرى على غرار وجود أرضية ثقافية وسياسية متقاربة، إضافة إلى جرأة الأمريكيين في نسف الحدود بين الاختصاصات في الوقت الذي تبقى فيه الجامعة الفرنسية شديدة التشبث بالمواد التقليدية والتقسيم الضيق وسط "العلوم الإنسانية". فكما يقول باحث العلوم السياسية جان رفائيل بورج الذي يعد أطروحة في جامعة باريس 8 حول "الرضاء الجنسي كفعل تشريعي" : " برأيي لا توجد حقا دراسات بورنوغرافية في فرنسا بسبب ضعف الإرادة ولأن الأسس المؤسساتية لا تسمح بذلك. فيجب أن تكون مختصا في مادة معينة : يمكنك أن تكون عالم اجتماع أو مختصا في السياسة أو مؤرخا، لكن لا يمكنك أن تكون "بورنولوجيا"".
ورغم ذلك فإن أهم التوجهات الفكرية التي ميزت العقدين الماضيين في الولايات المتحدة هي "الدراسات الثقافية" Cultural Studies و"الدراسات المابعد استعمارية" Postcolonial Studies و"الدراسات الجندرية" في ترجمة حرفية للـ Gender Studies وهي بحث في "الجنس الاجتماعي" أو "النوع الاجتماعي"، منبثقة عن "النظرية الفرنسية". وأهم رواد هذه التيارات هي جوديت بوتلر صاحبة "اضطرابات الجندر" الشهير والذي يقترح أن ترتيب الأدوار في المجتمع ليس نتيجة جسدية بيولوجية وإنما بناء ثقافي وإيديولوجي، إضافة إلى غاياتري سبيفاك وإدوار سعيد وغيرهم. فهؤلاء المفكرون يبحثون هويات الإنسان المعاصر والتي تجمع غالبا عقد قمع متعددة في ذات واحدة (كأن تكون مثلا امرأة وفركوفونية ومثلية في آن). والمشكل أن العديد من القراءات السطحية تقرن في الأذهان هذه البحوث بمسائل جنسية بالمعنى "الاستهلاكي" للأمر، وإن كان قانون الإنتاج والاستهلاك حتميا في زمننا فإن هؤلاء الفلاسفة يسعون إلى تغيير قيم السوق، وبالتحديد بإثبات أن للجسد، وإن كان مستهلِكا مستهلَكا، قيمة لا تباع ولا تشترى.
فعندما تتطرق جوديت بوتلر مثلا إلى مسألة المثلية الجنسية، تصل بنا إلى مواقف شائكة عرفها زمننا على غرار إجبار جنود أمريكيين رجالا عراقيين في المعتقل على ممارسة الجنس فيما بينهم. وتتجاوز بوتلر الأبعاد التي يطرحها تحريف منظومة قيم في مجتمع ما وتحويلها لأداة تعذيب، لتقف على تعليق الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش على تلك الممارسات "إنه أمر مقرف"، وتتساءل حول معنى استعماله لنعت "مقرف" : ما الذي يصفه بوش بالمقرف، ممارسة رجلين للجنس أم التعذيب ؟ وعندما تتطرق بوتلر إلى مسألة الموت وقيمة حياة بشرية في كتابها "أي حياة تستحق الحداد؟" تتساءل : أي حياة تستحق أن نبكي انتهاءها ؟ فلماذا يهتز العالم لهلاك حوالي ثلاثة آلاف شخص في اعتداءات 11 سبتمبر 2001 ولا يتحرك ساكن لعشرات الآلاف الذين قضوا في حرب الأفغانستان...
وإن كانت الصحافة الفرنسية تتساءل حول تكثف صدور كتب حول "البورنوغرافيا" في الأشهر الأخيرة، وتؤكد أن هذه الدراسات ولدت في الولايات المتحدة وتربطها بصدور كتاب باحثة أمريكية في 2004، وترى في نشر أول عدد من مجلة بريطانية مخصصة للموضوع حدثا كبيرا، فهي تجهل الموروث الفرنسي للمسألة. وإن كان للأمريكيين الفضل في استقطاب الأفكار وتطويرها وتصنيفها دون نفاق، فللفرنسيين سابق إطلاقها. لكن فرنسا عادة ما تقلل من شأنها أمام أمريكا، وهي عقدة وجب على الفرنسيين بحثها... لكنها مسألة أخرى يضيق فضاء المدونة لتحليلها فنتركها لحرب المدارس الناجمة عن نقص في الشهوة.فإن كانت الجامعات الفرنسية تتأخر في خلق اختصاص يحمل علنا تسمية Porn Studies لا يعني أنها لم تدرسها في إطار بحوث أخرى خصوصا اللغة والفلسفة والسيميوتيقا، لكن أصابت الصحافة الفرنسية في تحديد أسباب هذا التأخير الراجع إلى نظام تربوي ضيق الآفاق.
وحان الوقت لنكرم هنا الرئيس السابق لجامعة السوربون جورج مولينييه الذي غادرنا منذ أيام قليلة والذي لم يتردد من منبره "المقدس" من مواجهة الإصلاحات التي اقترحتها الحكومة في عهد الرئيس اليميني نيكولا ساركوزي عام 2009، حتى وصل الأمر إلى مواجهة بين الشرطة والطلاب في أحد أعرق الجامعات في العالم. وصمد موليينيه أمام حملة من التشويه على خلفية مواقفه السياسية المنادية بضرورة تكوين المعلمين وبحرية البحث ورفع نوع من الرقابة الإدارية الماكرة عن الجامعات من طرف حكومة شببها بحكومة "فيشي". وكان مولينيه من أبرز ورثاء البنيوية الفرنسية التي قادتنا إلى الدراسات الثقافية والجندرية نحو "البورنوغرافيا"، عنوان أحد آخر كتبه، والتي درسها سنوات طوال في السوربون قبل أن "يكتشفها" الأمريكيون وأن تعود لفرنسا في شكل "مفاجأة".
وإن كانت الصحافة الفرنسية تتحدث عن حقل مقيد ببحوث حول العاملين في مجال الجنس من عاهرات ووسطاء، وعن النضالات النسوية المتعارفة، وهي جميعها مهمة في "الدراسات البورنوغرافية"، فإن ما لم يفهمه الجميع هو البعد الإيتيقي الأساسي والضروري للبورنوغرافيا في حياة الإنسان. فحسب مولينيه كل فكر يقصي الجسد هو فكر فاشي، وأبرزها الفكر النازي الذي يبقى أكبر نموذج مجزرة جماعية في تاريخ الإنسانية لأنه لم يكتفي بقتل إنسانية الإنسان عبر إذلاله وإلغاء حياته بتصفيته بل وتجاوزه إلى "قتل الموت" بإتلاف الجثث نفسها. أي عتمة أكبر من ظلمات عصرنا "المتنور" الذي استمات في قتل الموت ؟ من هنا يصبح من غير الممكن أن نصنع فكرا حول الإنسان دون أن نفكر في الجسد. الجسد كمقياس للإنسانية، والجنس كمقياس للجسد. والنشوة كمقياس للجنس. فكيف يمكن أن نواكب التفكير حول الإنسان دون التفكير في ما كنهه وماهيته وهي الجسد ونشوته ؟ وطبعا يعتبر جنس الأنثى أكبر مقياس للجنس عامة والجسد ؟ فبعد 25 قرنا من الفكر المنحصر حول الذكر والأب، ومن شتى الانتهاكات التي تستهدفت النساء، ويبقى الاغتصاب أولها، فإن أهم شيء يمكننا التوقف عنده هو جنس النساء، وهي يشمل الذكر والأنثى لأنه ليس محددا بالبيولوجيا، حتى نعيد للإنسانية عموما إنسانيتها. كيف يمكن اليوم مثلا منع التفكير في حادثة التحرش بميدان التحرير ؟ وحذف الفيديو الذي يظهرها؟ وأي أمل يرجى من إنسانية معصوبة العينين ؟
وكان إقصاء جسد المرأة من المنظومة الفكرية عبر التاريخ وصل درجة أن العري نفسه صار مرادفا لعري جسد المرأة، فكيف نفسر مثلا أن الإنسان لم يبصر عري الرجال حتى غطت الأيار المنتصبة في أعمال ميشال أنجيلو كنيسة السيستين دون أن تهتز لها نفوس المؤمنين ؟ فيقول مولينيه إن البورنوغرافيا "ببساطة شجاعة وواضحة وصافية في تكرارها اللامتناهي للحركات من الجنسي إلى البصري : إنها منيرة". وتضيء أنوارها أنبل أبعاد العقل البشري في أكبر انتصار على الموت، من أجل الجسد الحي. خصوصا وإن الإبداع هو نوع من البورنوغرافيا –في سوق تبيع فيها عاهرة هواها للمجموعة-، في خلقه نشوة جماعية، فيزيولوجية، غير مجازية، لدى جمهور متعدد أمام عمل فني واحد. لذلك لا نخشى الحديث عن سوق الفن، وهي تحمل أكبر قيمة أخلاقية لأنها تحرك أعمق جوارح الإنسان وأكثرها حميمة وهشاشة. فحين نسمع سمفونية لموزار أو نقرأ أبياتا للمتنبي، تحمر الوجنات ويدق القلب ولا نرى ولا نسمع : إنها النشوة، ولنقل إنها نشوة ربانية.
لكن اهتمام الصحافة الفرنسية بهذه "الظاهرة" الجديدة القديمة، ورغم نسبية صحتها، تعتبر خطوة نحو تعميم هذا الفكر-الضرورة وإسقاط ورقة التوت عنه. وكانت فرصة لنا لنعيد ما للفرنسيين إلى الفرنسيين وما لله إلى الله.
Tags for all blogs :
Comments or opinions expressed on this blog are those of the individual contributors only, and do not necessarily represent the views of FRANCE 24. The content on this blog is provided on an "as-is" basis. FRANCE 24 is not liable for any damages whatsoever arising out of the content or use of this blog.
1 Comments
Post new comment